الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.اللغة: {المن} أن يعتد بإحسانه على من أحسن إليه، وأن يذكره النعمة على سبيل التطاول والتفضل، قال الشاعر:{رئاء الناس} أي لا يريد بإنفاقه رضى الله وإنما يريد ثناء الناس، وأصله من الرؤية وهو أن يرى الناس ما يفعله حتى يثنوا عليه ويعظموه.{صفوان} الصفوان: الحجر الأملس الكبير، قال الأخفش: وهو جمع، واحده صفوانة، وقيل: هو اسم جنس كالحجر.{وابل} الوابل: المطر الشديد.{صلدا} الصلد: الأملس من الحجارة وهو كل ما لا ينبت شيئا، ومنه جبين أصلد.{بربوة} الربوة: المكان المرتفع من الأرض، يقال: ربوة ورابية وأصله من ربا الشيء إذا زاد وارتفع.{طل} الطل المطر الخفيف الذي تكون قطراته صغيرة، وقال قوم منهم مجاهد: الطل الندى.{وإعصار} الإعصار: الريح الشديدة التي تهب من الأرض، وترتفع إلى السماء كالعمود، ويقال لها: الزوبعة.{تيمموا} تقصدوا.{تغمضوا} من أغمض الرجل في أمر كذا إذا تساهل فيه وهذا كالإغضاء عند المكروه. اهـ. .من أقوال المفسرين: .قال القرطبي: عَبَّر تعالى عن عدم القبول وحرمان الثواب بالإبْطال، والمراد الصدقة التي يمُنُّ بها ويُؤْذِي، لا غيرها.والعقيدة أن السيئات لا تُبطل الحسنات ولا تُحبطها؛ فالمنّ والأذى في صدقة لا يُبطل صدقةً غيرها.قال جمهور العلماء في هذه الآية: إن الصدقة التي يعلم الله مِن صاحبها أنه يمنّ أو يؤذي بها فإنها لا تُقبل.وقيل: بل قد جعل الله للمَلك عليها أمارة فهو لا يكتبها؛ وهذا حسن.والعرب تقول لما يُمَنُّ به: يَدٌ سوداء.ولما يُعطي عن غير مسألة: يَدٌ بيضاء.ولما يُعطي عن مسألة: يَدٌ خضراء.وقال بعض البلغاء: مَنْ مَنّ بمعروفه سقط شكره، ومن أُعجب بعمله حَبَط أجره.وقال بعض الشعراء:وقال آخر: وقال أبو بكر الورّاق فأحسن: وسمع ابن سيرين رجلًا يقول لرجل: فعلت إليك وفعلت! فقال له: اسكت فلا خير في المعروف إذا أُحْصِي.وروي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إياكم والامتنان بالمعروف فإنه يبطل الشكر ويمحق الأجر ثم تلا لاَ تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالمَنّ وَالاٌّذَى». اهـ. .قال الفخر: قال القاضي: إنه تعالى أكد النهي عن إبطال الصدقة بالمن والأذى وأزال كل شبهة للمرجئة بأن بيّن أن المراد أن المن والأذى يبطلان الصدقة، ومعلوم أن الصدقة قد وقعت وتقدمت، فلا يصح أن تبطل فالمراد إبطال أجرها وثوابها، لأن الأجر لم يحصل بعد وهو مستقبل فيصح إبطاله بما يأتيه من المن والأذى.واعلم أنه تعالى ذكر لكيفية إبطال أجر الصدقة بالمن والأذى مثلين، فمثله أولًا: بمن ينفق ماله رئاء الناس، وهو مع ذلك كافر لا يؤمن بالله واليوم الآخر، لأن بطلان أجر نفقة هذا المرائي الكافر أظهر من بطلان أجر صدقة من يتبعها المن والأذى، ثم مثله ثانيًا: بالصفوان الذي وقع عليه تراب وغبار، ثم أصابه المطر القوي، فيزيل ذلك الغبار عنه حتى يصير كأنه ما كان عليه غبار ولا تراب أصلًا، فالكافر كالصفوان، والتراب مثل ذلك الإنفاق والوابل كالكفر الذي يحبط عمل الكافر، وكالمن والأذى اللذين يحبطان عمل هذا المنفق، قال: فكما أن الوابل أزال التراب الذي وقع على الصفوان، فكذا المن والأذى يوجب أن يكونا مبطلين لأجر الإنفاق بعد حصوله، وذلك صريح في القول بالاحباط والتفكير، قال الجبائي: وكما دل هذا النص على صحة قولنا فالعقل دل عليه أيضًا، وذلك لأن من أطاع وعصى، فلو استحق ثواب طاعته وعقاب معصيته لوجب أن يستحق النقيضين، لأن شرط الثواب أن يكون منفعة خالصة دائمة مقرونة بالإجلال، وشرط العقاب أن يكون مضرة خالصة دائمة مقرونة بالإذلال فلو لم تقع المحابطة لحصل استحقاق النقيضين وذلك محال، ولأنه حين يعاقبه فقد منعه الإثابة ومنع الإثابة ظلم، وهذا العقاب عدل، فيلزم أن يكون هذا العقاب عدلًا من حيث إنه حقه، وأن يكون ظلمًا من حيث إنه منع الإثابة، فيكون ظالمًا بنفس الفعل الذي هو عادل فيه وذلك محال، فصح بهذا قولنا في الإحباط والتفكير بهذا النص وبدلالة العقل، هذا كلام المعتزلة.وأما أصحابنا فإنهم قالوا: ليس المراد بقوله: {لاَ تُبْطِلُواْ} النهي عن إزالة هذا الثواب بعد ثبوته بل المراد به أن يأتي بهذا العمل باطلًا، وذلك لأنه إذا قصد به غير وجه الله تعالى فقد أتى به من الابتداء على نعت البطلان، واحتج أصحابنا على بطلان قول المعتزلة بوجوه من الدلائل:أولها: أن النافي والطارئ إن لم يكن بينهما منافاة لم يلزم من طريان الطارئ زوال النافي، وإن حصلت بينهما منافاة لم يكن اندفاع الطارئ أولى من زوال النافي، بل ربما كان هذا أولى لأن الدفع أسهل من الرفع.ثانيها: أن الطارئ لو أبطل لكان إما أن يبطل ما دخل منه في الوجود في الماضي وهو محال لأن الماضي انقضى ولم يبق في الحال وإعدام المعدوم محال وإما أن يبطل ما هو موجود في الحال وهو أيضًا محال لأن الموجود في الحال لو أعدمه في الحال لزم الجمع بين العدم والوجود وهو محال، وإما أن يبطل ما سيوجد في المستقبل وهو محال، لأن الذي سيوجد في المستقبل معدوم في الحال وإعدام ما لم يوجد بعد محال.وثالثها: أن شرط طريان الطارئ زوال النافي فلو جعلنا زوال النافي معللًا بطريان الطارئ لزم الدور وهو محال.ورابعها: أن الطارئ إذا طرأ وأعدم الثواب السابق فالثواب السابق إما أن يعدم من هذا الطارئ شيئًا أو لا يعدم منه شيئًا، والأول هو الموازنة وهو قول أبي هاشم وهو باطل، وذلك لأن الموجب لعدم كل واحد منهما وجود الآخر فلو حصل العدمان معًا اللذان هما معلولان لزم حصول الوجودين اللذين هما علتان فيلزم أن يكون كل واحد منهما موجودًا حال كون كل واحد منهما معدومًا وهو محال.وأما الثاني: وهو قول أبي علي الجُبّائي فهو أيضًا باطل لأن العقاب الطارئ لما أزال الثواب السابق، وذلك الثواب السابق ليس له أثر ألبتة في إزالة الشيء من هذا العقاب الطارىء، فحينئذ لا يحصل له من العمل الذي أوجب الثواب السابق فائدة أصلًا لا في جلب ثواب ولا في دفع عقاب وذلك على مضادة النص الصريح في قوله: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: 7] ولأنه خلاف العدل حيث يحمل العبد مشقة الطاعة، ولم يظهر له منها أثر لا في جلب المنفعة ولا في دفع المضرة.وخامسها: وهو أنكم تقولون: الصغيرة تحبط بعض أجزاء الثواب دون البعض، وذلك محال من القول، لأن أجزاء الاستحقاقات متساوية في الماهية، فالصغيرة الطارئة إذا انصرف تأثيرها إلى بعض تلك الاستحقاقات دون البعض مع استواء الكل في الماهية كان ذلك ترجيحًا للممكن من غير مرجح وهو محال، فلم يبق إلا أن يقال بأن الصغيرة الطارئة تزيل كل تلك الاستحقاقات وهو باطل بالاتفاق، أو لا نزيل شيئًا منها وهو المطلوب.وسادسها: وهو أن عقاب الكبيرة إذا كان أكثر من ثواب العمل المتقدم، فإما أن يقال بأن المؤثر في إبطال الثواب بعض أجزاء العقاب الطارئ أو كلها والأول: باطل لأن اختصاص بعض تلك الأجزاء بالمؤثرية دون البعض مع استواء كلها في الماهية ترجيح للممكن من غير مرجح وهو محال، والقسم الثاني باطل، لأنه حينئذ يجتمع على إبطال الجزء الواحد من الثواب جزآن من العقاب مع أن كل واحد من ذينك الجزأين مستقل بإيطال ذلك الثواب، فقد اجتمع على الأثر الواحد مؤثران مستقلان وذلك محال، لأنه يستغني بكل واحد منهما فيكون غنيًا عنهما معًا حال كونه محتاجًا إليهما معًا وهو محال.وسابعها: وهو أنه لا منافاة بين هذين الاستحقاقين لأن السيد إذا قال لعبده: احفظ المتاع لئلا يسرقه السارق، ثم في ذلك الوقت جاء العدو وقصد قتل السيد، فاشتغل العبد بمحاربة ذلك العدو وقتله فذلك الفعل من العبد يستوجب استحقاقه للمدح والتعظيم حيث دفع القتل عن سيده، ويوجب استحقاقه للذم حيث عرض ماله للسرقة، وكل واحد من الاستحقاقين ثابت، والعقلاء يرجعون في مثل هذه الواقعة إلى الترجيح أو إلى المهايأة، فأما أن يحكموا بانتفاء أحد الاستحقاقين وزواله فذلك مدفوع في بداهة العقول.وثامنها: أن الموجب لحصول هذا الاستحقاق هو الفعل المتقدم فهذا الطارئ إما أن يكون له أثر في جهة اقتضاء ذلك الفعل لذلك الاستحقاق أو لا يكون، والأول: محال لأن ذلك الفعل إنما يكون موجودًا في الزمان الماضي، فلو كان لهذا الطارئ أثر في ذلك الفعل الماضي لكان هذا إيقاعًا للتأثير في الزمان الماضي وهو محال، وإن لم يكن للطارئ أثر في اقتضاء ذلك الفعل السابق لذلك الاستحقاق وجب أن يبقى ذلك الاقتضاء كما كان وأن لا يزول ولا يقال لم لا يجوز أن يكون هذا الطارئ مانعًا من ظهور الأثر على ذلك السابق، لأنا نقول: إذا كان هذا الطارئ لا يمكنه أن يعمل بجهة اقتضاء ذلك الفعل السابق أصلًا وألبتة من حيث إيقاع الأثر في الماضي محال، واندفاع أثر هذا الطارئ ممكن في الجملة كان الماضي على هذا التقدير أقوى من هذا الحادث فكان الماضي بدفع هذا الحادث أولى من العكس.وتاسعها: أن هؤلاء المعتزلة يقولون: إن شرب جرعة من الخمر يحبط ثواب الإيمان وطاعة سبعين سنة على سبيل الإخلاص، وذلك محال.لأنا نعلم بالضرورة أن ثواب هذه الطاعات أكثر من عقاب هذه المعصية الواحدة، والأعظم لا يحيط بالأقل، قال الجبائي: إنه لا يمتنع أن تكون الكبيرة الواحدة أعظم من كل طاعة، لأن معصية الله تعظم على قدر كثرة نعمه وإحسانه، كما أن استحقاق قيام الربانية وقد رباه وملكه وبلغه إلى النهاية العظيمة أعظم من قيامه بحقه لكثرة نعمه، فإذا كانت نعم الله على عباده بحيث لا تضبط عظمًا وكثرة لم يمتنع أن يستحق على المعصية الواحدة العقاب العظيم الذي يوافي على ثواب جملة الطاعات، واعلم أن هذا العذر ضعيف لأن الملك إذا عظمت نعمه على عبده ثم إن ذلك العبد قام بحق عبوديته خمسين سنة ثم إنه كسر رأس قلم ذلك الملك قصدًا، فلو أحبط الملك جميع طاعاته بسبب ذلك القدر من الجرم فكل أحد يذمه وينسبه إلى ترك الإنصاف والقسوة، ومعلوم أن جميع المعاصي بالنسبة إلى جلال الله تعالى أقل من كسر رأس القلم، فظهر أن ما قالوه على خلاف قياس العقول.وعاشرها: أن إيمان ساعة يهدم كفر سبعين سنة، فالإيمان سبعين سنة كيف يهدم بفسق ساعة، وهذا مما لا يقبله العقل والله أعلم، فهذه جملة الدلائل العقلية على فساد القول بالمحابطة، في تمسك المعتزلة بهذه الآية فنقول: قوله تعالى: {لاَ تُبْطِلُواْ صدقاتكم بالمن والأذى} يحتمل أمرين أحدهما: لا تأتوا به باطلًا، وذلك أن ينوي بالصدقة الرياء والسمعة، فتكون هذه الصدقة حين وجدت حصلت باطلة، وهذا التأويل لا يضرنا ألبتة.الوجه الثاني: أن يكون المراد بالإبطال أن يؤتي بها على وجه يوجب الثواب، ثم بعد ذلك إذا اتبعت بالمن والأذى صار عقاب المن والأذى مزيلًا لثواب تلك الصدقة، وعلى هذا الوجه ينفعهم التمسك بالآية، فلم كان حمل اللفظ على هذا الوجه الثاني أولى من حمله على الوجه الأول واعلم أن الله تعالى ذكر لذلك مثلين أحدهما: يطابق الاحتمال الأول، وهو قوله: {كالذى يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء الناس وَلاَ يُؤْمِنُ بالله} إذ من المعلوم أن المراد من كونه عمل هذا باطلًا أنه دخل في الوجود باطلًا، لا أنه دخل صحيحًا، ثم يزول، لأن المانع من صحة هذا العمل هو الكفر، والكفر مقارن له، فيمتنع دخوله صحيحًا في الوجود، فهذا المثل يشهد لما ذهبنا إليه من التأويل، وأما المثل الثاني وهو الصفوان الذي وقع عليه غبار وتراب ثم أصابه وابل، فهذا يشهد لتأويلهم، لأنه تعالى جعل الوابل مزيلًا لذلك الغبار بعد وقوع الغبار على الصفوان فكذا هاهنا يجب أن يكون المن والأذى مزيلين للأجر والثواب بعد حصول استحقاق الأجر، إلا أن لنا أن نقول: لا نسلم أن المشبه بوقوع الغبار على الصفوان حصول الأجر للكافر، بل المشبه بذلك صدور هذا العمل الذي لولا كونه مقرونًا بالنية الفاسدة لكان موجبًا لحصول الأجر والثواب، فالمشبه بالتراب الواقع على الصفوان هو ذلك العمل الصادر منه، وحمل الكلام على ما ذكرناه أولى، لأن الغبار إذا وقع على الصفوان لم يكن ملتصقًا به ولا غائصًا فيه ألبتة، بل كان ذلك الاتصال كالانفصال، فهو في مرأى العين متصل، وفي الحقيقة غير متصل، فكذا الإنفاق المقرون بالمن والأذى، يرى في الظاهر أنه عمل من أعمال البر، وفي الحقيقة ليس كذلك، فظهر أن استدلالهم بهذه الآية ضعيف، وأما الحجة العقلية التي تمسكوا بها فقد بينا أنه لا منافاة في الجمع بين الاستحقاقين، وأن مقتضى ذلك الجمع إما الترجيح وإما المهايأة. اهـ.
|